كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وهما معاً بعض دلالة الخلق العظيم.
وصورة ثالثة للمساومة فيما رواه ابن اسحق قال: واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة فيما بلغني الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي. وكانوا ذوي أسنان في قومهم. فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر. فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه! فأنزل الله تعالى فيهم: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون} السورة كلها..
وحسم الله المساومة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة. وقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره ربه أن يقول..
ثم يبرز قيمة العنصر الأخلاقي مرة أخرى في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن إطاعة أحد هؤلاء المكذبين بالذات، ويصفه بصفاته المزرية المنفرة، ويتوعده بالإذلال والمهانة:
{ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشآء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم}..
وقد قيل: إنه الوليد بن المغيرة، وإنه هو الذي نزلت فيه كذلك آيات من سورة المدثر: {ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهودا ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعوداً إنه فكَّر وقدَّر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذآ إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر} ورويت عنه مواقف كثيرة في الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنذار أصحابه، والوقوف في وجه الدعوة، والصد عن سبيل الله.. كما قيل: إن آيات سورة القلم نزلت في الأخنس بن شريق.. وكلاهما كان ممن خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولجوا في حربة والتأليب عليه أمداً طويلاً.
وهذه الحملة القرآنية العنيفة في هذه السورة، والتهديدات القاصمة في السورة الأخرى، وفي سواها، شاهد على شدة دوره سواء كان هو الوليد أو الأخنس والأول أرجح، في حرب الرسول والدعوة، كما هي شاهد على سوء طويته، وفساد نفسه، وخلوها من الخير.
والقرآن يصفه هنا بتسع صفات كلها ذميم..
فهو حلاف.. كثير الحلف. ولا يكثر الحلف إلا إنسان غير صادق، يدرك أن الناس يكذبونه ولا يثقون به، فيحلف ويكثر من الحلف ليداري كذبه، ويستجلب ثقة الناس.
وهو مهين.. لا يحترم نفسه، ولا يحترم الناس قوله.
وآية مهانته حاجته إلى الحلف، وعدم ثقته بنفسه وعدم ثقة الناس به. ولو كان ذا مال وذا بنين وذا جاه. فالمهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان سلطاناً طاغية جباراً. والعزة صفة نفسية لا تفارق النفس الكريمة ولو تجردت من كل أعراض الحياة الدنيا!
وهو هماز.. يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة في حضورهم أو في غيبتهم سواء. وخلق الهمز يكرهه الإسلام أشد الكراهية؛ فهو يخالف المروءة، ويخالف أدب النفس، ويخالف الأدب في معاملة الناس وحفظ كراماتهم صغروا أم كبروا. وقد تكرر ذم هذا الخلق في القرآن في غير موضع؛ فقال: {ويل لكل همزة لمزة} وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب} وكلها أنواع من الهمز في صورة من الصور..
وهو مشاء بنميم. يمشي بين الناس بما يفسد قلوبهم، ويقطع صلاتهم، ويذهب بموداتهم. وهو خلق ذميم كما أنه خلق مهين، لا يتصف به ولا يقدم عليه إنسان يحترم نفسه أو يرجو لنفسه احتراماً عند الآخرين. حتى أولئك الذين يفتحون آذانهم للنمام، ناقل الكلام، المشاء بالسوء بين الأوداء. حتى هؤلاء الذين يفتحون آذانهم له لا يحترمونه في قرارة نفوسهم ولا يودونه.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن ينقل إليه أحد ما يغير قلبه على صاحب من أصحابه. وكان يقول: «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر».
وثبت في الصحيحين من حديث مجاهد عن طاووس عن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقبرين، «فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة».
وروى الإمام أحمد بإسناده عن حذيفة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل الجنة قتات» أي نمام (ورواه الجماعة إلا ابن ماجه).
وروى الإمام أحمد كذلك بإسناده عن يزيد بن السكن. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخياركم؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «الذين إذا رؤوا ذكر الله عز وجل ثم قال: ألا أخبركم بشراركم؟ المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب».
ولم يكن بد للإسلام أن يشدد في النهي عن هذا الخلق الذميم الوضيع، الذي يفسد القلب، كما يفسد الصحب، ويتدنى بالقائل قبل أن يفسد بين الجماعة، ويأكل قلبه وخلقه قبل أن يأكل سلامة المجتمع، ويفقد الناس الثقة بعضهم ببعض، ويجني على الأبرياء في معظم الأحايين!
وهو مناع للخير.
يمنع الخير عن نفسه وعن غيره. ولقد كان يمنع الإيمان وهو جماع الخير. وعرف عنه أنه كان يقول لأولاده وعشيرته، كلما آنس منهم ميلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: لئن تبع دين محمد منكم أحد لا أنفعه بشيء أبدا. فكان يمنعهم بهذا التهديد عن الإسلام. ومن ثم سجل القرآن عليه هذه الصفة {مناع للخير} فيما كان يفعل ويقول.
وهو معتد.. متجاوز للحق والعدل إطلاقاً. ثم هو معتد على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين وعلى أهله وعشيرته الذين يصدهم عن الهدى ويمنعهم من الدين.. والاعتداء صفة ذميمة تنال من عناية القرآن والحديث اهتماماً كبيراً.. وينهى عنها الإسلام في كل صورة من صورها، حتى في الطعام والشراب: {كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه}.. لأن العدل والاعتدال طابع الإسلام الأصيل.
وهو أثيم.. يرتكب المعاصي حتى يحق عليه الوصف الثابت. {أثيم}.. بدون تحديد لنوع الآثام التي يرتكبها. فاتجاه التعبير إلى إثبات الصفة، وإلصاقها بالنفس كالطبع المقيم!
وهو بعد هذا كله {عتل}.. وهي لفظة تعبر بجرسها وظلها عن مجموعة من الصفات ومجموعة من السمات، لا تبلغها مجموعة ألفاظ وصفات. فقد يقال: إن العتل هو الغليظ الجافي. وإنه الأكول الشروب. وإنه الشره المنوع. وإنه الفظ في طبعه، اللئيم في نفسه، السِّيئ في معاملته.. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: «العتل كل رغيب الجوف، وثيق الخلق، أكول شروب، جموع للمال، منوع له».. ولكن تبقى كلمة {عتل} بذاتها أدل على كل هذا، وأبلغ تصويراً للشخصية الكريهة من جميع الوجوه.
وهو زنيم.. وهذه خاتمة الصفات الذميمة الكريهة المتجمعة في عدو من أعداء الإسلام وما يعادي الإسلام ويصر على عداوته إلا أناس من هذا الطراز الذميم والزنيم من معانيه اللصيق في القوم لا نسب له فيهم، أو أن نسبه فيهم ظنين. ومن معانيه، الذي اشتهر وعرف بين الناس بلؤمه وخبثه وكثرة شروره. والمعنى الثاني هو الأقرب في حالة الوليد بن المغيرة. وإن كان إطلاق اللفظ يدمغه بصفة تدعه مهيناً في القوم، وهو المختال الفخور.
ثم يعقب على هذه الصفات الذاتية بموقفه من آيات الله، مع التشنيع بهذا الموقف الذي يجزي به نعمة الله عليه بالمال والبنين:
{أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين}..
وما أقبح ما يجزي إنسان نعمة الله عليه بالمال والبنين؛ استهزاء بآياته، وسخرية من رسوله، واعتداء على دينه.. وهذه وحدها تعدل كل ما مر من وصف ذميم.
ومن ثم يجيء التهديد من الجبار القهار، يلمس في نفسه موضع الاختيال والفخر بالمال والبنين؛ كما لمس وصفه من قبل موضع الاختيال بمكانته ونسبه.
ويسمع وعد الله القاطع:
{سنسمه على الخرطوم}..
ومن معاني الخرطوم طرف أنف الخنزير البري.. ولعله هو المقصود هنا كناية عن أنفه! والأنف في لغة العرب يكنى به عن العزة فيقال: أنف أشم للعزيز. وأنف في الرغام للذليل.. أي في التراب! ويقال ورم أنفه وحمي أنفه، إذا غضب معتزاً. ومنه الأنفة.. والتهديد بوسمه على الخرطوم يحوي نوعين من الإذلال والتحقير.. الأول الوسم كما يوسم العبد.. والثاني جعل أنفه خرطوماً كخرطوم الخنزير!
وما من شك أن وقع هذه الآيات على نفس الوليد كان قاصماً. فهو من أمة كانت تعد هجاء شاعر ولو بالباطل مذمة يتوقاها الكريم! فكيف بدمغه بالحق من خالق السماوات والأرض. بهذا الأسلوب الذي لا يبارى. في هذا السجل الذي تتجاوب بكل لفظ من ألفاظه جنبات الوجود. ثم يستقر في كيان الوجود.. في خلود..
إنها القاصمة التي يستأهلها عدو الإسلام وعدو الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم..
وبمناسبة الإشارة إلى المال والبنين، والبطر الذي يبطره المكذبون، يضرب لهم مثلاً بقصة يبدو أنها كانت معروفة عندهم، شائعة بينهم، ويذكرهم فيها بعاقبة البطر بالنعمة، ومنع الخير والاعتداء على حقوق الآخرين؛ ويشعرهم أن ما بين أيديهم من نعم المال والبنين، إنما هو ابتلاء لهم كما ابتلي أصحاب هذه القصة، وأن له ما بعده، وأنهم غير متروكين لما هم فيه:
{إنا بلوناهم كما بلونآ أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طآئف من ربك وهم نآئمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لاَّ يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين فلما رأوها قالوا إنا لضآلون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحان ربنآ إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنآ أن يبدلنا خيراً منهآ إنآ إلى ربنا راغبون كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}..
وهذه القصة قد تكون متداولة ومعروفة، ولكن السياق القرآني يكشف عما وراء حوادثها من فعل الله وقدرته، ومن ابتلاء وجزاء لبعض عباده. ويكون هذا هو الجديد في سياقها القرآني.
ومن خلال نصوصها وحركاتها نلمح مجموعة من الناس ساذجة بدائية أشبه في تفكيرها وتصورها وحركتها بأهل الريف البسطاء السذج. ولعل هذا المستوى من النماذج البشرية كان أقرب إلى المخاطبين بالقصة، الذين كانوا يعاندون ويجحدون، ولكن نفوسهم ليست شديدة التعقيد، إنما هي أقرب إلى السذاجة والبساطة!
والقصة من ناحية الأداء تمثل إحدى طرق الأداء الفني للقصة في القرآن؛ وفيه مفاجآت مشوقة، كما أن فيه سخرية بالكيد البشري العاجز أمام تدبير الله وكيده.
وفيه حيوية في العرض حتى لكأن السامع أو القارئ يشهد القصة حية تقع أحداثها أمامه وتتوالى. فلنحاول أن نراها كما هي في سياقها القرآني:
ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة جنة الدنيا لا جنة الآخرة وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمراً. لقد كان للمساكين حظ من ثمرة هذه الجنة كما تقول الروايات على أيام صاحبها الطيب الصالح. ولكن الورثة يريدون أن يستأثروا بثمرها الآن، وأن يحرموا المساكين حظهم.. فلننظر كيف تجري الأحداث إذن!
{إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون}.
لقد قر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر، دون أن يستثنوا منه شيئاً للمساكين. وأقسموا على هذا، وعقدوا النية عليه، وباتوا بهذا الشر فيما اعتزموه.. فلندعهم في غفلتهم أو في كيدهم الذي بيتوه، ولننظر ماذا يجري من ورائهم في بهمة الليل وهم لا يشعرون. فإن الله ساهر لا ينام كما ينامون، وهو يدبر لهم غير ما يدبرون، جزاء على ما بيتوا من بطر بالنعمة ومنع للخير، وبخل بنصيب المساكين المعلوم.. إن هناك مفاجأة تتم في خفية. وحركة لطيفة كحركة الأشباح في الظلام. والناس نيام:
{فطاف عليها طآئف من ربك وهم نآئمون فأصبحت كالصريم}..
فلندع الجنة وما ألم بها مؤقتاً لننظر كيف يصنع المبيتون الماكرون.
ها هم أولاء يصحون مبكرين كما دبروا، وينادي بعضهم بعضاً لينفذوا ما اعتزموا:
{فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين}..
يذكر بعضهم بعضاً ويوصي بعضهم بعضاً، ويحمس بعضهم بعضاً!
ثم يمضي السياق في السخرية منهم، فيصورهم منطلقين، يتحدثون في خفوت، زيادة في إحكام التدبير، ليحتجنوا الثمر كله لهم، ويحرموا منه المساكين!
{فانطلقوا وهم يتخافتون أن لاَّ يدخلنها اليوم عليكم مسكين}!!!
وكأنما نحن الذين نسمع القرآن أو نقرؤه نعلم ما لا يعلمه أصحاب الجنة من أمرها.. أجل فقد شهدنا تلك اليد الخفية اللطيفة تمتد إليها في الظلام، فتذهب بثمرها كله. ورأيناها كأنما هي مقطوعة الثمار بعد ذلك الطائف الخفي الرهيب! فلنمسك أنفاسنا إذن، لنرى كيف يصنع الماكرون المبيتون.
إن السياق ما يزال يسخر من الماكرين المبيتين:
{وغدوا على حرد قادرين}!
أجل إنهم لقادرون على المنع والحرمان.. حرمان أنفسهم على أقل تقدير!!
وها هم أولاء يفاجأون. فلننطلق مع السياق ساخرين. ونحن نشهدهم مفجوئين:
{فلما رأوها قالوا إنا لضالون}..
ما هذه جنتنا الموقرة بالثمار. فقد ضللنا إليها الطريق!.. ولكنهم يعودون فيتأكدون:
{بل نحن محرومون}..